القاعدة الأولى :
لا تتحسر على ما فات واعمل لما هو آت ؛ قال تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)16. وقال تعالى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون)17، وعن أنس رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي الله واصبري ، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه ؛ فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأتته فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك ؛ فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)18. والمقصد أن الإنسان عليه أن يأخذ العبرة مما يجري ويمضي دون أن يعيقه ذلك عن النظر إلى الآتي ، ومن الملاحظ أن كثرة التحسر وإضاعة الأوقات في الحديث عما مضى أصبح ديدن كثير من الناس من دون اعتبار ولا نفع ، ولوك قصص المصائب من دون عظة وبالٌ أوله إهدار الوقت الثمين في اللغو ، ورب رجل أو امرأة وقع واحدهم في مصيبة ؛ فلا يزال الناس يتحدثون عنهما ويتأسفون لما حل بهما دون أن يسارع أحد إلى موقف عملي ينقذ ، أو تدخل فعلي يقي من استمرار عاقبة مدمرة ؛ والعاقل لا يفعل هذا.
إن من التطبيقات التنفيذية لاتخاذ الموقف العملي دون إضاعة الأعمار في الحسرات ما فعله أنس بن النضر رضي الله عنه عندما فاتته المشاركة في غزوة بدر مع رسول الله فقال19: (والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرين الله كيف أصنع ، وقاتل في أحد حتى قتل ووجد في جسده بضع وثمانون أثرا ما بين ضربة ورمية وطعنة حتى ما عرفته أخته إلا ببنانه) ونزلت فيه وفي أمثاله الآية الكريمة : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)20. وعندما كان ينازع وفي رمقه الأخير قال لزيد بن ثابت: )أجدني أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شفر يطرف وفاضت عينه(21 فمتى نتعلم إذا فاتنا موقف أن نصمم لنكون في الموقف القادم أهل الثبات والصدق والبذل وأن لا نطيل التحسر على ما مضى بل يحدونا شوق البذل إلى ما سيأتي!!
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المنازلا
ولا تنتظر في السير رفقة قاعـد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
إن السقوط المدوي للأندلس وبغداد طال البكاء عليه ولكن لم يحظ حتى اليوم بمؤتمر لدراسة أسبابه والدروس المستفادة منه ، والحمد لله أن القنابل الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي لم تسقط فوق بلد عربي وإلا لبقي في نواح عليها شديد إلى يوم الدين! ورحم الله الإمام ابن حزم إذ ابتلي بصحبة الجهال فما أضاع عمره في التأفف والتحسر بل استفاد من ذلك فقال في رسالته المسماة : الأخلاق والسير في مداواة النفوس: (ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي واحتدم خاطري وحمي فكري وتهيج نشاطي ؛ فكان ذلك سببا إلى تواليف [مؤلفات] لي عظيمة المنفعة ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف).