خلق التواضع : من خصال أهل القرآن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن الهادي سيدنا محمداً عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق للناس كافة بشيرا ونذيرا.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد فان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ومن جملة إعجازه بناؤه لحملة العقيدة الربانية ، وإن الأمة تبقى بخير مادام فيها رجال ونساء يتحققون بأخلاق القرآن ؛ ينفون الخبث ويسطعون أقمار هداية في بحور ظلمات الجاهلية ، ويفضحون بخلقهم القرآني النبيل سلوك أهل الباطل ؛ حتى يتضح للكل أن الانحراف جهل كله وضلال كله وظلمة كله ، وأن معاقد الخير كلها إنما هي في القرآن ومن القرآن وبالقرآن ، ومن خصال أهل القرآن : خلق التواضع وهو أدب رفيع يكتسبه المؤمن من متابعة الأنبياء ، وقد ورد في الصحيح أن موسى عليه السلام سُئل: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا أو حدثته نفسه بذلك ؛ فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه 1 فكانت قصة موسى مع الخضر عبرة لكل مؤمن أن يتواضع أبدا وينسب العلم إلى الله تعالى ، ومن متابعة الأنبياء جواب عيسى عليه السلام : (قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنتُ قلته فقد علمتَه تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك انك أنت علام الغيوب)2 ، وقام نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بآية يرددها3: (إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم)4 وفي حديث مسلم أنه (رفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى)5.
فمن أخلاق الأنبياء معرفتهم بجلال الله تعالى وعظمته والتأدب معه غاية التأدب ، والمتابع لهم صلوات الله عليهم يتعلم منهم آداب العبودية ويكتسب لوازم الهداية من رحمة الخلق وحب الهداية والتذلل لله في مواطن السجود فيورثه ذلك خلق التواضع ، وروح التواضع كما يقول ابن القيم رحمه الله: أن يتواضع العبد لصولة الحق ويخضع لها وينقاد إليها فلا يقابلها بصولته عليها.
ولا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض ؛ فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا تم هذا المقام للسالك إلى الله تحقق بقوله تعالى : (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)6 فإنه ليس للمؤمن من نفسه شيء ، وتمام التواضع لله أن يكون العبد معه كما يريد سبحانه لا كما يريد هو ؛ فإن كان أمر الله في الذلة على المؤمنين ؛ كان [العبد]كذلك وإن كان أمر الله تعالى بالعزة على الكافرين كان المؤمن كذلك ، وعند بعض الناس آفتان الأولى: آفة الذلة على المؤمنين ، والذلة على الكافرين معاً وهذا اتباع هوى أو تأثر بأهل انحراف وخبث أو جبن غالب وهلع قاتل ، والآفة الثانية : آفة العزة على المؤمنين ،والعزة على الكافرين ، وهذه نفس شيطانية عصبية ليس لها من آداب العبودية حظ ولا نصيب فهي سهم يرميه شيطان ويؤزه بالحقد والانتقام ، وأسوأ من الآفتين خصلة كفرانية محضة ، وهي العزة على المؤمنين والذلة على الكافرين ولا ترى كفورا ولا صاحب نفاق ولا عدوا لله ورسوله وللمؤمنين إلا وله منها المكيال الأوفى.
والسلامة من الآفات إنما تكون في الاعتصام بالكتاب والسنة ومعرفة إعجاز التوازن في بناء الخلق والسلوك ولازال دأب المؤمنين معرفة حقوق الله فيكتسبون بذلك التواضع الذي هو كما قلنا الخضوع للحق والانقياد له فيكون منهجهم دائما (الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين) ومما قد يبتلى به بعض من ينطلقون باسم الدعوة إلى الله ؛ ماتراه عند بعضهم من جفاء الخلق وغلظة الخطاب مع المؤمنين والترفع عليهم والتكبر على علمائهم وعوامهم ؛ مما تشك معه بأنهم قد انصرفوا يوما إلى تهذيب نفوسهم بأخلاق الأنبياء قبل انصرافهم إلى التصدي للدعوة إلى الله ؛ بطريقة تنفر الناس من الدعوة وتحملهم على إساءة الظن بالدعاة وزيادة البعد عن الإسلام ؛ وهم مخالفون بذلك قوله تعالى (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)7 وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)8 وصدق الله تعالى يصف سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم : (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)9 وقد كان عليه الصلاة والسلام آية في الرحمة والشفقة والتواضع يمر على الصبيان فيسلم عليهم وتأخذ الأمة بيده فتنطلق به حيث شاءت ، وفي بيته يكون في خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة ، ولم يكن ينتقم لنفسه قط وما ضرب امرأة ولا خادما ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله ويأكل مع الخادم ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما ويبدأ من لقيه بالسلام ، ومن خلق هذا النبي العظيم المتواضع انسكب الخير ألوانا في الأمة المسلمة خلال عصورها وحتى اليوم وبقي رجالها يعلمون الناس التواضع لله ويفضحون المنحرفين بسلوك استقوه من معين الأنبياء ؛ قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا ؛ فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها! فرحم الله عمرا ، ورحم الله أمة فيها مثل عمر ، وهذا الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز بلغه أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه : بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فبعه [يا ابن الأمير] وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واكتب عليه: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
وسارت معالم التواضع فمن رؤسائها الشافعي رحمه الله إذ يقول: كلما ازددت علما ازددت معرفة بجهلي ؛ وصار شعار أهل العلم : نصف العلم أن تقول لا أدري.
ومن التواضع أن يعرف الإنسان لمن علموه أو سبقوه فضلهم ؛ فكان من كريم خُلُق السلف ؛ منهجهم : الحر من راعى وداد لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظه ؛ وأحكمها الشافعي لما قال لأصحابه حاضا لهم على التواضع ومعرفة الحقوق : من ساوى بنفسه فوق ما يساوي رده الله إلى قيمته ؛ ففاقد التواضع مغرور يعطي نفسه قيمة هي أكبر مما يستحق فيفضح نفسه ؛ كرجل سمعنا عنه شارك في مؤتمر إسلامي وطرح مغالطات فقام شاب نبيه يستدرك عليه ؛ فما وجد الرجل حجة في وجهه البتة إلا بأن قال له : كيف يخاطبني مثلك وماذا لديك من الشهادات؟ ألا تعلم أني أحمل كذا دكتوراه وكذا.. وكذا.. فأفحم الناس بجهله وغروره وفضح نفسه10، وكذلك كل مغرور لا تكون عنده حجة فيقول : أنا عملت كذا وكذا ، وفعلت كذا ... فماذا فعلتم أنتم؟ وربما كان يخاطب من سبقوه في كثير من الأمور وهو لا يدري! وأول ما سبقوه به نجاتهم من العجب القاتل فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ، فإن اجتمع معه حب محمدة الناس أو المصانعة والرياء لهم فهناك المقتل ، والعامل لله لا يحتاج إلى بوق ينفخ فيه ليري الناس فضله وإنما يزكيه صالح عمله ، والعمل إن لم يقترن بالإخلاص ، ولم يكن التواضع مفتاحه والانقياد للحق سبيله فهو مهلكة ، وقد ذكر الإمام السرخسي في كتابه شرح السير الكبير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام خيبر ؛ فقاتل رجل فقتل ؛ فقال صلى الله عليه وسلم :
لاتحل الجنة لعاص)11.
ومما ينسف العمل: فقدان التواضع في قبول النصيحة فإن المؤمن يطلبها أبدا ويتواضع لحاملها والحكمة ضالته ؛ أما المتكبر عليها فيقال له ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول عليك نفسك [لا تتدخل في الأمر] أنت تأمرني!)12. والموفق من فقه ما قاله السلف رضي الله عنهم: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلمه منها فإن الأحمق من ترك يقين ما عنده [وعلمه بنفسه يقين] لظن ما عند الناس [وعلم الناس به ظن] ؛ لهذا لما مدح أحد الصالحين بكى وقال يناجي الله تعالى:
يظنون بي خيرا وما بي من خـير ولكني عبد ظلوم كما تـدري
سترت عيوبي جميعا عن عيونهـم وألبستني ثوبا جميلا من السـتر
فلا تفضحني في القيامة بينهـم ولا تخزني يارب في موقف الحشر
أما بشر الحافي فعلم قدر نفسه بين يدي الله تعالى فقال: لو كانت للذنوب رائحة ما قدر أن يقترب مني أحد [فماذا ينبغي أن نفعل نحن] وهو الذي لما سمع بأن الإمام أحمد بن حنبل مصفد في الأغلال نظر إلى ساقيه وقال: ما أقبح أن لا توضع الأغلال في هذه الساق ؛ نصرة لأحمد رضي الله عنه ، وحملها الخلف عن السلف حتى قام سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم ، وكان من الملوك وأبناء الملوك فترك ذلك كله وذهب للرباط على ثغور الشام ، ولما ضربه رجل لم يعرفه يوما ؛ طأطأ رأسه وترقرقت الدمعة في عينه وقال: اضرب رأسا طالما عصى الله تعالى! [وما يحمد الإنسان إذا ترك الناس يضربونه] ولكنها تربية لنفسه وتذكيرا لها بالتواضع في جانب الله تعالى ؛ فإن نفوسنا لو تُعاتَبُ على ما اجترحت لما حق فيها إلا قوله تعالى (ولو يؤاخذُ الله الناسَ بظلمهم ما ترك عليها من دابة)13. فان الإنسان يلزمه تذكر نقصه ليسعى نحو الكمال ؛ أما إن ظن بنفسه الكمال فهناك أول الهلاك ، ومن العبر المخيفة المعاصرة في الدعوة الإسلامية قصة رجل من كبار الدعاة ؛ حاول احتواءه المخلطون وأصحاب الأغراض فما استطاعوا تشويش أفكاره! فقدموه يوما للصلاة إماما وأكبرُ زعمائهم وراءه! فما أطاق عقله ذلك ، وظن أنهم إنما قدموه لأنه صار الرأس من دون منازع ولم يدر أنها خدعة دخلت إليه من ثغرة في نفسه فخدع بهم وبتبجيلهم واحترامهم الكاذب .. ثم خرج ما في قلبه على لسانه! فصار يقول لمن يلقاهم : صليت إماما بفلان .. صليت إماما بفلان .. ثم دخل معهم وأساء مثلما أساءوا .. ولو تفكر وأمثاله قليلا في قوله تعالى ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )14 لاتعظ وعرف قدر نفسه ؛ أما الموفقون فيسيرون على نهج الأنبياء تواضعا واقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وقد وصفه تعالى بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم)15 ؛ فتسمع من أخبارهم أن العلامة الشيخ إبراهيم الغلاييني رحمه الله أتاه طالب تركي غاب طويلا وأراد الاعتذار للشيخ عن غيابه [والأتراك عندهم أدب عجيب مع العلماء] فقال للشيخ وعينه دامعة : "أنت مثل الكلب" وهو يريد أن يقول : "أنا مثل الكلب" [أي تقصيراً] فغلط في النسبة ؛ وصار الشيخ رحمه الله يبكي ويقول: يا ليتني يا بني أكون مثل الكلب حتى لا يحاسبني ربي [ لأنه إن حاسبني ]ولم يغفر لي لأكونن شرا من الكلاب ؛ فأبكى جلاسه بافتقاره إلى الله وتواضعه وانكساره!
وهذا مولانا إلياس الكاندهلوي .. يشد الناس اليه الرحال في طلب العلم والنصيحة ،وقد أتى قوم لزيارته ، وفي مجلسه عشرات من الناس ؛ فدخل إليهم من قدم لهم الشاي جميعا بنفسه وجلس ؛ وهم ينتظرون الشيخ ؛ فقالوا : متى يدخل الشيخ؟ فقال الجالسون : الشيخ هو الذي يقدم لكم الضيافة فعجبوا لإكرامه ضيوفه وتواضعه على جلالة قدره وكبر سنه .
وهذا العالم الصالح الشيخ حمدي الجويجاتي رحمه الله وقد نفعني الله به ؛ كان في أحد المساجد فدخل أحد كبار العلماء فصلى ثم أتى فسلم عليه ؛ فلما انصرف قال لي الشيخ: انظر كم هو متواضع هذا العالم! فقلت له : وكيف هذا يا سيدي؟ فقال: أما رأيته كيف أتى وسلم عليَّ ؛ فلولا تواضعه لما فعل ذلك ، وماذا نكون بجانبه من العلم ؛ وكان الشيخ حمدي رحمه الله وقتها قد جاوز الثمانين ؛ وهؤلاء القوم الصالحون ؛ إنما كانوا وراث نبوة باتباعهم الكتاب والسنة ؛ فبناهم القرآن أهل حق وتوازن وتواضع لله ؛ تهفو إليهم القلوب وتخرب الأمم من دون أمثالهم ، وما كان تواضعهم ضعفا بل انقيادا لما يحبه الله ، وإلا فقد كانوا في مواطن الجهر بالحق أول الناس..
وبعد كل ذلك يلزم المؤمن وتخصيصا الداعية إلى الله ؛ أن يعرف ما ألقاه إليه الإمام ابن القيم في مدارجه إذ يقول: "وليحذر العبد كل الحذر من طغيان (أنا) و (لي) و (عندي) فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون .. فأنا خير منه : لإبليس .. و لي ملك مصر: لفرعون .. و إنما أوتيته على علم عندي : لقارون ، وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد : أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المقترف ونحوه ، ولي في قوله : لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل ، وعندي في قوله : اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي" اللهم نحن عبيدك المذنبون المقصرون المستغفرون ارحم فقرنا وذلنا بين يديك واسترنا يا ستار بسترك الجميل .. اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ..
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
1- البخاري ، العلم 122.
2- المائدة 116.
3- ابن ماجة ، إقامة الصلاة والسنة فيها 1350. قال الألباني :حسن
4- المائدة 118.
5- مسلم ، الإيمان 202.
6- المائدة 54.
7- الشعراء 215.
8- مسلم ، الجنة وصفة نعيمها 2865.
9- آل عمران 159.
10- رحم الله العلامة المتقن الشيخ عبد الفتاح أبي غدة إذ يقول بلسان حال من يدخل الجامعات ليأخذ الدكتوراه دون أن ُيحصل علما :
ودخلت فيها جاهلا متواضعا وخرجت منها جاهلا دكتورا! (ويجوز أن تقول: مغرورا)
فكيف لو علم ما صار بعد وفاته بسنوات قليلة من كثرة البلوى بشراء شهادات الدكتوراه بالنقود ومن جامعات وهمية! ثم لا يستحي مدعي إحدى تلك الشهادات من أن يقرن اسمه بها ويتصدر بها في المحافل ثم يلقى الناس بوقاحة وعجرفة! لأن معه دكتوراه! والتي صار بعض حملتها يتناقشون في العقوبات التي ينبغي أن يعامل بها طلاب الدراسات الإسلامية في حال قيامهم بالغش في الامتحانات! إلى أن قال أخ كريم لبعض أولئك : كيف ستحاسبون الطلاب وشهاداتكم التي يحملها بعضكم [كحملة الأسفار] كلها غش وكذب وتزوير!
وقلت لأحدهم : ما هذه الحال التي صارت فيها شهادة [الدكتوراة في الشريعة الغراء] تشترى بألف دولار فقال: لو كانت بألف دولار لكان الأمر يسيراً ، ولأخذتها من وقت بعيد ؛ لقد وصل ثمنها إلى ثلاثة آلاف دولار !!! وما مضت مدة يسيرة حتى وجدت صاحبنا قد قرن اسمه الكريم بها ؛ فيا ضيعة العلم في مثل هذا الزمان .
وأخذ أحدهم تلك الشهادة العظيمة ؛ فقال له أحد العلماء : الناس إذا أكرمهم الله بالعلم ، أحبوا أن ينتفع الناس به ؛ فأين رسالتك العلمية تدل على علمك ؛ فسكت صاحب الشهادة المزورة ؛ فقال له العالم : أنا أتحداك أن تنشر رسالتك!! إن كانت هناك رسالة ؛ بل أتحداك أن تنشر أربع صفحات منها !!!
وزعم بعضهم وهذا أمر خطير جداً أن الجهاز الديني ستكون له هيبة أقوى ، وأن الحكومات وأجهزة الأمن! ستتعامل باحترام زائد مع حملة الشهادات العليا [ولو كانت مزورة] والحق أن الحكومات والمثقفين والعوام ، والمجتمعات ، بل أجهزة الأمن في كل الدنيا تعرف النائحة الثكلى من المستأجرة ، ولا تحترم بل تزدري أولئك المزورين ، ولو استخدمت بعضهم استخدام النعال التي ترميها بعد اهترائها ، وماداموا قد قبلوا الغش في شريعتهم ودينهم فأي احترام يبقى لهم!!
ومن باب النصيحة نقول لكل سالك طريق علم : إياك من الغش والتزوير ، والدعوى الكاذبة التي ستلقى أُمتك ثم الله بها ، واسلك سبيل علماء الأمة العظام الذين كان علمهم هداية وإيماناً وجدا واجتهادا وتعبا وبذلا ونورا قذفه الله في قلوبهم ؛ فصلحت بهم الأرض ، وعاشوا سادة أعزة ، وماتوا قادة خير كراما .
إن من أعظم البدع المهلكة والمسيئة إلى العلم وأهله تلك الأحوال المزرية التي صار فيها بعض حملة العلم يتاجرون باسمه وقد ضيعوا معناه وروحه وسمته وهديه ، وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ماشئت) .
11- محمد بن أحمد السرخسي ، شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني ؛ تحقيق د.صلاح الدين المنجد ؛ معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ، القاهرة ، مطبعة شركة الاعلانات الشرقية ، 1971، 1/173.
ولم أعرف سنده ، إلا أن في الصحيح قصة مدعم إذ جاءه سهم عائر، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا) وهي في البخاري ، المغازي 3993.
12- أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، وانظر مجمع الزوائد : المجلد 7 ، كتاب الفتن (32) ، الحديث12162. وفي معجم الطبراني الكبير ، حرف الظاء ؛ سنده : حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن سعد بن وهب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ولم يتح لنا المجال للتأكد من اتصال السند.
13- النحل 61.
14- الإسراء 14.
15- القلم 4.