د. سعد بن مطر العتيبي
1) من الحقائق الشرعيّة والعمليّة الواقعيّة: ثبوت العداوة بين المؤمنين وغيرهم وبين المسلمين وغيرهم، ووجود الصراع بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وهي حقيقة شرعيّة تتضمّن إعجازاً خبريّاً وردت به النصوص الشرعية ، في مثل قول الله تعالى : }ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء { ، وقوله عز وجل: } قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر {، وقوله جل وعلا : } ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا{ .
ولعلّ من أوضح الأمثلة على هذه الحقيقة ما وقع من الإساءة إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في إحدى الصحف الدنمركيّة من قبل، وتكرار ذلك في سبع عشرة صحيفة دنمركيّة هذه الأيام؛ فقد اجتمع في هذه الإساءة المتطرفون من ثلاثة مذاهب: متطرّفو اليهود، وهذا ظاهر في النجمة السداسيّة التي تحملها الجريدة التي نشرت الإساءة أوّلا، وهم أشدّ النّاس عداوة لنا -نحن المسلمين - بنصّ القرآن الكريم؛ ومتطرّفو النصارى وهذا ظاهر في ملكة الدانمارك ومن شايعها من متطرّفي النصارى؛ ومتطرّفو الليبرالية وهذا ظاهر في الحزب الحاكم في الدنمارك .
2) ومن هنا، فتكرار هذه الإساءة يمكن قراءته في ضوء هذه الخلطة العدائية ، واتصالاتها الأجنبيّة؛ فهذه العداوة أكثر عمقا لأمور تتعلّق بتكوين الحكومة والخلفيّة الثقافيّة والتاريخيّة لأصحاب القرار في المجتمع الدانمركيّ؛ فالدولة الدانمركيّة تجمع بين نقيضين: التديّن في نصوص الدستور الملكي، والليبراليّة المتطرّفة في الحزب الحاكم ووسائل الإعلام في الواقع .. فأمّا التديّن فمنصوص عليه في دستورهم فقد جاء في (المادة1/بند 5) من دستور الدانمارك: يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة! . وجاء في (المادة1/بند 3) منه: إنّ الكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة هي الكنيسة المعترف بها في الدانمارك !
والنصوص الشرعيّة في بيان موقف النصارى من الإسلام ورسوله وأتباعه لا تخفى على قاريء أو سامع لكتاب الله عزّ وجلّ، ومن ذلك قول الله تعالى : }ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم {؛وعليه فلن يرضوا عن رسول الله ما داموا على دينهم، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يتّبع ملّتهم، بل توفّاه الله تعالى حنيفاً مسلماً؛ فبقيت عداوتهم لمن بقي – مستكبراً - على نصرانيته، وبقي غير المستكبرين منهم أقرب مودّة له - صلّى الله عليه وآله وسلّم – وللمؤمنين، تفيض أعينهم من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ، يقولون : ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين.
وأمّا الليبراليّة في الدنمارك فهي أيديولوجيّة الحزب الحاكم والإعلام في الجملة، وعندما يجتمع الأمران مع تناقضهما فلا شكّ أنّ معاداتهما للإسلام ونبيّ الإسلام صلّى الله عليه وسلّم سيكون نقطة لقاء بينهما مهما كانت الخلافات، وسيسكت هؤلاء عن هؤلاء والعكس .. وقد صرّحت الحكومة الدنمركية في دفاعها عن نفسها في الجريمة الأولى بأنّها حكومة ليبراليّة، وأنّها إنَّما يطبِّق مقتضيات اللبرالية في عدم اعتراضها على سوء الأدب في النيل من المقدّسات، حتى ولو تعلّق الأمر بالأنبياء كلّ الأنبياء؟!
ولم يقتصر الأمر على الجهات التنفيذيّة والإعلاميّة، فلقد اطّلعت على الحكم الجائر الذي أصدره القضاء الدانمركي بتبرئة الصحيفة التي تولّت كبر الإفك والإجرام .. ووجدته قراراً مكشوفاً مفضوحاً، في احتياله على قانون العقوبات وتفسيراته الغريبة لموادّه الصريحة في إدانة الصحيفة، لو كانت المحكمة الدنمركيّة تحترم نفسها، فهو حكم يفتقد العدالة.
3) ومن الأسباب التي يرمي إليها معيدو الجريمة على ما ذكره بعض المهتمّين: وقف المدّ الإسلاميّ في الدنمارك، ولا سيّما بعد انتشار الإسلام بين الدنمركيين عقب الإساءة الأولى، ورجوع بعض أبناء الجالية الإسلاميّة ممن كانوا داخل طوفان الذوبان إلى دينهم واشتعال جذوة حميّتهم لرسولهم صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا ينتج عكس ما يريد الظالمون، ولكنّها الحماقة التي تطغى على العقل، والحقد الذي يعمي ويصمّ، فهذه الفعلة إعلان منهم عن إفلاسهم الثقافيّ في التعامل مع مليار ونصف المليار من البشر، وانحطاطهم الأخلاقيّ في التعامل مع مواطنيهم من المسلمين، فكيف يكون شعور مواطن يُساء إلى نبيّه بالجملة من سبع عشرة صحيفة في تمثيليّة خرقاء؟
4) وثمّة ما يتعلّق بالمسلمين من الأسباب، ومن أهمّها ضعف مواقف الدول الإسلاميّة في معالجة الإساءة، فلم تكن على مستوى الحدث مقارنة بالجهود الشعبيّة الكبيرة التي تمخّضت عن التعاطي الإيجابيّ مع الأزمة وبعدها، إلاّ أنّ تشتّت المواقف قد أضعفها، ولذلك أسباب كثيرة لا أريد أن أدخل فيها لتشعّبها، لكنّها تبقى تحت الدراسة للاعتبار، ومنع التكرار.
ومن الأسباب إضافة إلى ما ذُكر:
تشويه المنحرفين من أبناء المسلمين لدينهم، سواء كانوا غلاة أو جفاة، فالغلاة يزيدون من حقد القوم بارتكاب أعمال مخالفة للإسلام ينسبونها هم للإسلام ثم ينسبها إعلام الغرب للإسلام والمسلمين.
والجفاة يساهمون في نقد الإسلام وتصديق مقولات أعدائه ونشرها ورفع تقارير وعرائض للجهات الأجنبيّة عن بلادهم، سواء كانت تلك الجهات مؤسّسات تعليميّة أو بحثيّة أو استخباريّة أو شبه استخباريّة، أو مراكز تخطيط ووضع رؤى مستقبليّة، سواء كان ذلك تبرّعاً أو خيانة مدفوعة الثمن.
5) ولعلّ ممّا يساهم في تحويل هذه المحنة إلى منحة: الصبر المنضبط، والتقوى الحاملة على العمل الصحيح،} وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا{، فالصبر يحافظ على توازن المواقف وتأمّل الحلول، والتقوى تحمل على الشعور بالمسؤوليّة، ومن ثمّ العمل الجادّ والمبادرات الإيجابيّة. وقد وقع شيء من ذلك بحمد الله تعالى بعيد الإساءة الأولى، فوجدنا عملاً إيجابيـّاً، تمثّل في نشر التعريف بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم عبر وسائل إعلاميّة مختلفة، بدءاً من الكتاب وانتهاء بالكليب.
ومن ينظر بعين الإنصاف إلى جهود الإخوة في رابطة العالم الإسلاميّ ومكاتب دعوة الجاليات، والمؤسّسات والمنظّمات التي نشأت قبل الإساءة كالمنظّمة الدوليّة لنصرة خاتم الأنبياء، أو بعدها كبرنامج نبيّ الرحمة، وكمنظّمة النصرة مثلا، سيجد من الأمور ما يسرّ المؤمنين ويحزن المعتدين، وهي جهود منشورة ومعلنة في عدد من وسائل الإعلام المهتمّة بالموضوع، وعلى المواقع الخاصّة بهذه المؤسّسات والمنظّمات العاملة، ومن الجهود التي تعنى بالنواحي المستقبليّة ما تقوم بهذه المؤسّسات من السعي في استصدار قانون أمميّ يحرّم النيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلاّم، إضافة إلى الملاحقات القضائيّة المتكرّرة لكلّ من ظهرت منه إساءة معلنة تتطلّب ذلك.
ومن خلال هذه المؤسّسات وجهودها يمكن أن نبيّن لغير المسلمين في دول الغرب وغيره الصورة الحقيقيّة لديننا ونبيّنا من خلال دعم المشاريع القائمة لهذه المؤسّسات التي أشرت إليها مثلا، وتبنّي ما تسوقه من مشاريع جديدة تخدم الدعوة الإسلاميّة المضادّة للإساءة، في الحاضر والمستقبل، وتبقى ذخراً لأصحابها في الآخرة ضمن العلم الذي ينتفع به والدعوة الصالحة لأصحابها.
6 ) ينبغي لإخواننا في البلاد الغربيّة وفي الدنمارك خاصّة: أن يلتزموا بما تُقرّره القيادات الإسلاميّة المعتدلة في تلك البلاد، وأن يعبّروا عن رفضهم لأيّ إساءة إلى نبيّهم من خلال جميع الوسائل المتاحة في ظلّ قوانين تلك الدول ممّا ليس فيه مخالفة للشريعة الإسلاميّة. وعلى القيادات الإسلاميّة هناك أن تتواصل مع المرجعيّات الشرعيّة والمنظمات المختصّة في العالم الإسلاميّ والعربيّ، وتتعاون معها في توضيح الرؤية وتنسيق الجهود.
7) وأمّا بالنسبة للمقاطعة الاقتصاديّة كعلاج، فإنّها إذا لم تكن شاملة فلن تكون كافية، وإذا لم تكن مدروسة فربّما تكون في بعض الحالات أكثر ضرراً من نفعها. ولذلك وجدنا من يدعو لمقاطعة منتجات على أنّها دنمركيّة مع أنّها ليست كذلك!
وإذا ما أردنا أن نفيد من دروس الماضي، فينبغي أن نقول بكلّ صراحة:" للأسف الشديدلم تقاطع الشركات الكبيرة التي يتعامل معها كبار التجّار والحكومات الإسلاميّة، كشركة ( ميرسك ) مثلا والتي يكفي التلويح بمقاطعتها لتأديب الدنمركيين المعتدين، وللمعلوميّة فهذه الشركات الكبيرة، لم تكن داخلة في بعض الفتاوى التي صدرت برفع المقاطعة عن شركة ( آرلا ) المتخصّصة في المواد الغذائيّة مثلا. والعدالة والإنصاف يقتضيان التنبيه إلى هذه المسألة في الجواب عن موضوع المقاطعة".
والحقيقة أنّ المقاطعة من الوسائل التي ينبغي أن تفعّل بطريقة صحيحة؛ ولا يُقال إنّ استعمالها محرج للدول، فنحن في عصر لا ينكر فيه أثر الأفراد والشعوب في المحافظة على مكوّناتها الدينيّة والثقافيّة، وخاصّة إذا ما كان متّزناً في الموقف، و موحّداً في المرجعيّة الشرعيّة، وحرّاً في الممارسة العمليّة والإعلاميّة؛ فإنّ القوانين الدوليّة لا تمنع الشعوب من اتخاذها حقَّها في إعلان المقاطعة الاقتصاديّة ضدّ من يسيء إليها، كما لا تتحمّل الجهات الرسميّة مسؤوليّة دوليّة بهذا الخصوص. كما أنَّ السوابق الدوليّة تؤكِّد حقّ الحكومات وليس الشعوب فقط في الحثّ على المقاطعة الاقتصاديّة وتقنينها في حال الاعتداء عليها، وليس اعتداء أشدَّ على المسلمين من الاعتداء على الإسلام ونبيّ الإسلام. ولا يعلم معنى الاعتداء الذي ارتُكِب ضدّ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم وخطورته في المجتمع الإسلاميّ إلاّ من عرف الإسلام على حقيقته، وعرف مكانة الإسلام والنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم لدى المسلمين مهما كان مستوى التزامهم الدينيّ.
هذا ما تيسّرت كتابته بهذا الشأن في هذا الوقت.
والله تعالى أعلم وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه.